مر عامان وكأن التاريخ يعيد نفسه ..
الأمن المركزي بنفس عنفه يُكرر التجربة ذاتها مرة أخرى ..
يتلذذ بضرب المتظاهرين بقنابل الغاز بل وقذفهم بالحجارة أيضاً .
ما زالت الداخلية بكافة قطاعاتها تلهث لحماية النظام الحاكم .. حماية أي نظام مهما كانت درجة استبداده ..
لم يتغير شيئاً .. ويبدو أن شيئاً لن يتغير .
كان كغيره ممن ظن أن الثورة ستجعله يتمسك بالحياة لتحقيق مستقبله ، ولكنه وجد نفسه يقف كل فترة أمام الموت لتحقيق ما ظن أن الثورة ستحققه ..
ووجد أن محاولة تحقيق ما يبتغيه من حرية وعدل يتصدى لها دوماً إما عسكر أو مليشيات تابعة للنظام أو جنود أمن مركزي .. ووجد نفسه يقف دوماً في الصفوف الأمامية في الاشتباكات مجابهاً العنف المُفرط ..
رأى ما يفعله الأمن المركزي مع المتظاهرين ..
ورأى المتظاهرين لا يملكون سوى الحجارة ..
ورأى أن ثلاثة أرباع من كانوا في المسيرة قد تراجعوا إلى الخلف وبينهم وبين الأمن المركزي حوالي العشرين شاباً يقفون في خط المواجهة .
رأى الغاز المسيل للدموع يُغلّف شارع المواجهات بلونه الأبيض القطنيّ ..
أُنهكت الصدور .. احترقت العيون ..
تساقط العشرات أرضاً ..
بينما المئات من ثوار الشعارات الرنانة يقفون في نهاية الشارع يُنادون بإسقاط النظام شاعرين بأن الهتاف وحده يكفي لإسقاطه وأن خدمة توصيل (إسقاط النظام) للمنازل ستصلهم حينما كانوا وبدون تكلفة .
لم يجد سوى أن يتقدم بمفرده ..
أخترق من تبقى ممن لم يفقدوا بعد القدرة على احتمال الغاز وتقدم نحو الجنود الواقفين أمام المدرعة الرابضة في بداية الشارع ..
توقف على بُعد ثمانية أمتار منها ومن جنود الأمن المركزي الذين يقذفون المتظاهرين بالحجارة تارة وبقنابل الغاز تارة أخرى ..
تَحوّل هدف الجنود من مقاومة المتظاهرين إلى محاولة قنصه بالحجارة وبزجاجات المياه الغازية التي أضيفت إلى ذخائرهم .
كان يقف مبتسماً لهم عاقداً ذراعيه على صدره متحدياً إياهم ..
أستمر الجنود في قذفه بما تيسر لهم لإرهابه لكي يتراجع .. ولكنه تقدم إليهم ..
تقدم إليهم خطوات عدة ولكنه عاد بها بالزمن إلى ساعات ماضية ..
تذَكر أنه وعد حبيبته منذ ساعات أنه سيعود إليها سليماً ومُعافى ولن يُلقى بنفسه في خط المواجهة كما عهدته دوماً .
المسافة بينه وبينهم الآن خمسة أمتار ..
كان تقدمه لا يسمح بإلقاء قنبلة الغاز بجواره نظراً لقربه الشديد من الجنود مما سيؤدي إلى تأذيهم فقرروا الاستمرار بإلقائه بالأحجار ..
كان يتفادى الأحجار مستهزئاً بهم على مرأى ممن خلفه طامحاً في أن يُزيد ذلك من جرأة من يرونه وهم يشاهدون الجنود وهم يُخفقون في إصابته .
تَقدم نحو الجنود مرة أخرى ..
أزداد عدد الجنود في مواجهته وكأنهم أدركوا ما يرمي إليه من تقدمه هذا ..
أتى واحداً منهم بمدفع القنابل ووجهه إليه محذراً إياه ..
كان كلاً منهما - الجندي والشاب - يعلمان ما ستنتج عنه إصابته بالقنبلة من هذا القرب .. ولم يفارقه مشهد أحد الشباب الذي تلقّى واحدة منها في وجهه فتحطمت أسنانه ولربما تحطم وجهه بأكمله نظراً لكمية الدماء التي غطت وجهه .
أزاح هذا الخاطر عن تفكيره وتوقف في مكانه وفرد ذراعيه مرحباً بضربه بالقنبلة في استهزاء ..
أخذ الجندي وضع إطلاق القنبلة نحوه وأطلقها نحوه .
.شعر بها الشاب تمر بجوار أذنيه بصوتها المميز ..
أبتسم للجندي ساخراً لفشله في إصابته .. ولم يُلاحظ أن جسده قد ارتطمت به في تلك اللحظة أكواماً من الحجارة وحطام الزجاج الذي تهشم بجوار قدميه .
في تلك اللحظة أدار السائق محرك المدرعة المتواجدة خلف الجنود ..
مدرعة ربما كانت لا تزال تحمل في عجلاتها أشلاء من دهستهم منذ عامان .
أفسح الجنود لها طريقاً وانطلقت نحوه ..
كان سائقها قد رأي يوماً مشهداً لشخص يقف أمام المدرعة في تحدي لها ، لذلك قرر ألا يصنع من هذا الشاب بطلاً .. فتحرك نحوه ظناً منه أن الشاب سيركض حتماً من أمامه كغيره من المتظاهرين .
تحركت المدرعة نحوه بسرعة ..
تعالت أصوات المتظاهرين خلفه تطالبه بالتراجع قبل أن تدهسه المدرعة .
في تلك اللحظة أغمض الشاب عينيه وأبتسم ..
رأي حبيبته أمامه تمد يدها نحوه ..
رأى الظلام يتبدد تدريجياً إلى نور ..
أستمع إلى الصراخ وهو يتحول تدريجياً إلى صمت ..
تمنى مع أخر حروف نطقها من الشهادة ألا يصبح موته هباء ..
تمنى مع أخر أنفاس ألتقطها أن يتحول موته إلى وقوداً لتحطيم قيد الاستبداد ..
تمنى أن يكون موته حياة لوطن قارب أن يفارق الحياة .
محمد العليمي
تسلم ايدك يا محمد جميله اوى
ردحذفتسلم ايديك ، رائع كالعادة ، واظبط ابعاد مساحة التدوينات علشان منظر المدونة العام :)
ردحذف