" أ (عبدووووو) .. اطلع إنتا بالناس دي عشان الأسطا (محما) الظابط جه أخدوه "
كان ذلك بمثابة رسالة للركاب مفادها أن يهبطوا من الميكروباص لأنه لن يتحرك ..
" طب فين الميكروباص اللي طالع ؟ "
أشار لهم أحد السائقين بغطرسة من بيده مصيرهم ..
" اللي عليه علم مصر ده بتاع الأسطا (عبدو) "
بدأت عملية الانتقال وألتزم الركاب بأماكنهم السابقة في الميكروباص القديم وانتظروا السائق .
وما هي إلا لحظات إلا ظهر السائق الجديد ..
كان من تلك النوعية من السائقين اللذين لا يبدو عليهم علامات ومواصفات العاملين بتلك المهنة .. منمق الشعر والملابس .. منضبط الهندام ..
" سلامو عليكم .. من حظكم إن دي أخر عربية طالعة يا كده يا كنتم هتستنو لحد بكرة "
صمت لحظة ثم أستطرد مبتسماً :
" أنا ليا الشرف إني هطلع بيكم النهاردة .. بجد والله "
نظر كل راكب للآخر في تعجب .. يبدو عليه أنه سائق محترم ..
" هو إيه اللي حصل للسواق اللي كنا هنطلع معاه ؟ "
نظر السائق إلى السائل وأجابه :
" اللي أقدر أقولهولك .. إن ربنا .. بيحبكم علشان .. ما طلعش بيكم "
صمت لحظة وأستطرد :
" تصوروا إنه قال قدامي إنه مش هيخليكم توصلوا فمعادكم ؟ اه ده حصل .. ده غير إنه كان ريحته وحشة جداً وبيقنع الركاب دايماً إنها مش منه .. الحمد لله إن ربنا خلصكم منه .."
دوى صوت طرقات على جانب العربة ..
- " ما يلا يا عم (عبدو) مش وقت لوكلوك ونحنحة .. "
- " بتكلم مع ركابي يا أخي .. ما ينفعش كده "
- " إبقا كمّل معاهم الكلام في السكة يا با .. قدامك أربع ساعات بحالهم "
أدار السائق محرك الميكروباص وغادر الموقف ..
مرت دقائق عليه وهو يدندن أغنية ما ثم قال للركاب كمن تذكر فجأة :
" بصو يا جماعة .. أنا عارف إن اللي هقولوه ده غريب شوية .. بس ده علشان أنا بحبكم ..الأجرة العادية زيّ ما انتو عارفين هي ٣٥ جنيه بس أنا نظامي غير كده "
تبادل الركاب النظرات .. هاهو سيناريو جشع السائقين قد بدأ ..
" بالخمسة وتلاتين جنيه دول هتوصلو بعد خمس ساعات لأن الطريق اللي بنمشي منه متكسر فأنا عارف طريق تاني آمن وسليم وهيوصلنا بعد 4 ساعات بس .. لكن الأجرة هتزودوها شوية كده .. ووالله ده مش عشاني .. ده عشانكم ولمصلحتكم .. "
سأله أحد الأشخاص :
" كام يعني الزيادة ؟ "
ابتسم السائق وقال :
" الزيادة اللي معاكم "
ضرب الركاب كفا بكف وقال أحدهم :
" إنتا بتستغل إننا متأخرين بسبب السواق اللي غار في داهية وإننا طلعنا خلاص من الموقف ؟ "
صمت السائق وقال في حزن :
" والله أبداً .. أنا لو أطول أوصلكم ببلاش كنت عملت كده بس انتو شايفين الظروف اللي انتو فيها "
قال شاب من الركاب :
" طب وبالنسبة للإتنين اللي قاعدين جنبك هتاخد منهم زيادة برضو ولا إيه ؟ "
أخرج أولهما كارنيه وقال :
" قوات مسلحة "
وقال الثاني وهو يبرز كارت شخصي :
" مهندس / كريم خطاب .. رجل أعمال "
قال السائق للشاب :
" الناس اللي جنبي دول بره الموضوع أساساً .. دول تبع اللي ماسك الموقف ولولا إنهم كلموه إني أطلع بالعربية ما كانتش الأزمة اللي كنتو فيها تتحل "
أرتضى الركاب بالأمر وقام كل فرد منهم بدفع مبلغ إضافي ، فجميعهم يبتغون الوصول بأي شكل .. وخاصة أن أحدهما قد تبرع بالقول :
" يا جماعة المفروض نحمد ربنا إن الراجل ده لحقنا ورَضا إنه يوصّلنا من أصله .. شوفو اسلوبه معانا عامل إزاي ؟ أنا أول مرة أشوف سواق حنيّن مع الركاب بالشكل ده "
مرت نصف الساعة ووصلوا إلى بوابة الخروج من المحافظة ..
" ااااااااااه .. أنا نسيت خالص موضوع الكارتة ده .. معلش يا جماعة هضطر إني ألمّ منكم تمنها "
صاح أحد الركاب :
- " نعم ؟!!! هو إنتا نازل من غير جيوب ؟ "
- " تؤ تؤ تؤ .. ما يصحش كده يا أستاذ .. ما هو إنتو لو ما دفعتوش تمن الكارتة هتخرجوا أساساً من البوابة ؟ هو أنا هحط حاجة فجيبي ؟ ما كلو عشان مصلحتكم .. "
خيّم الصمت على الركاب وقال الراكب ( إياه) :
" أهو أنا أول واحد هساهم في تمن الكارتة .. إنتو مش عارفين إحنا لو عدينا ده هيبقا إيه ؟ ده هيبقا معناه إننا عدينا أول جزء في المشوار .. خلي عندكم بُعد نظر .. مش مهم التضحيات يا جماعة .. المهم إننا نوصل .. الله ينوّر عليك يا أسطا "
نظر السائق إليه عبر المرآة وأبتسم لما قاله .. يا له من مؤيد مثالي .
الآن قد مرت ساعتان .. ومازال السائق يدندن تلك الأغنية المجهولة باستمتاع غريب ، ولكن أحد الركاب قرر أن يقاطعه ..
- " إنتا مش هتقف في (ريست) يا أسطا ولا أيه ؟ "
- " مش هينفع .. عشان نوصل بسرعة "
- "نعم؟!!!! يعني نموت من الجوع والعطش ؟!! "
تنهد السائق في حزن ..
" والله والله والله .. أنا مرة قعدت من غير شرب أكتر من ٤ ساعات .. وصبرت .. اصبروا علشان نوصل "
هنا التفت رجل الأعمال للركاب وقال :
" أنا برضو ما يرضينيش إنكم تجوعو .. أنا معايا شوية أكل وكام إزازة مايّة بس أنا جايبهم غاليين شوية فمعلش هبعهالكم أغلى من تمنهم "
فألتفت فرد القوات المسلحة لهم وقال :
" وأنا معايا برضو شوية منتجات غذائية .. أينعم قليلة الجودة بس أرخص شوية وتقضّي الغرض "
رد أحد الركاب غاضباً :
" هو الأسطا سابلنا فلوس نشتري بيها حاجة .. إحنا خلاص فلّسنا "
رد الراكب (إياه) قائلاً :
- " إفلاس ايه بس .. مين جاب سيرة إفلاس .. اللي إحنا فيه ده وضع مؤقت وهينتهي أول ما نوصل .. أصبروا يا جماعة شوية .. الراجل عايز مصلحتكم "
- " بس يا ( مـ$#ص) .. "
- " بتغلط فيا يا أفّاق يا مدّعي يا عديم المسئولية "
تدخل أحد الركاب :
- " ما كفاية مزايدة على بعض بقا وجعتو دماغنا .. عليا الطلاق إنتو مش فاهمين حاجة "
- " وإنتا صوتك طلع دلوقتي إنتا كمان ما أنتا ساكت من أول السكة "
قالت إحدى السيدات :
" بدل ما تتخانقو على الفاضي شوفوا هتشترو إيه من الراجل اللي قدام عشان نعرف الأكل هيكفينا ولا لأ "
أجابتها سيدة أخرى :
" هو أنتي همّك على بطنك بس ؟ فيه حاجات أهم من الأكل "
وفي مقدمة الميكروباص كان السائق يبتسم ويقول لمن بجواره :
" كويس إنهم إتشغلو مع بعض عشان ما ياخدوش بالهم إني ماشي من الطريق العادي مش المختصر اللي كلمّتهم عليه .. "
إستطرد وهو يلمح بعينيه في المرآة إحتدام الخلاف بين الركاب :
" المصيبة إنهم فاكرين إني هبقا غير باقي السواقين وهمشي فطريق تاني لمجرد إني وعدتهم بكده .. ركاب هابلة بجد .. إهي مصلحة جاتلكم برضو عشان تستنفعو منهم "
قال رجل الأعمال :
- " أومّال أنا أستنيت علشان أركب معاك إنتا ليه ؟ ما أنا عارف إن إنتا اللي هقدر أكسب وأنا راكب جنبه "
قال فرد القوات المسلحة :
" والفضل ليك إنك بلّغت على السواق اللي كان هيطلع قبليك بعد ما طمّعته في إنه يستنا لحد ما يركب الزباين السوقع دول ويسترزق منهم .. إنتا دماغك داهية يا أسطا والله "
رد السائق :
" لولا دعمك ليا يا باشا ما كنتش هقدر أغوّره فداهية "
نظر السائق إلى المرآة فوجد أحد الركاب يتحدث إليهم بهدوء وفيما يبدو أنه استطاع أن يجعل التفاهم يسود بينهم فقال السائق لمن بجواره :
" شكله فيه واحد عاقل بينهم تعالوا نشغلهم بحاجة تانية "
قال موجهاً كلامه للركاب :
" وحدوا الله يا جماعة .. حصل خير .. بمناسبة الأخ اللي حلف بالطلاق .. إنتو عارفين إن فيه ناس كتير متطلقين وهما أساساُ مش متطلقين ؟ "
رد أحد الركاب :
" وإحنا مالنا بالحوار ده أصلاً ؟ "
قال رجل الأعمال :
- " طب ما حدش هيشتري حاجة من الحاجات اللي معايا قبل ما تغلا ؟ "
- " تغلا ؟ تغلا إزاي فخمس دقايق ؟ "
تدخل فرد القوات المسلحة وقال :
- " طب إنتوا عارفين إن الأسطا اللي معانا ده أكتر واحد من السواقين هتحسوا معاه بالآمان وعمره ما هيفكر إنه يبيع الميكروباص ده أو حتى كرسي واحد منه لأنه بيعتبر الميكروباص ده ملك لناس كلها "
- " الله ؟ وإيه جاب سيرة بيع الميكروباص أصلاً ؟ "
قال السائق فجأة وهو يهدئ من سرعة الميكروباص :
" يلا يا جماعة وصلنا الحمد لله زي ما وعدتكم أهو .. "
نظر الركاب حولهم .. إنها صحراء قاحلة ..
" ما تستغربوش هو ده الموقف بس من الجنب التاني أصل زي ما قولتلكم ده طريق مختصر هي خطوتين تمشوها طوّالي هتلاقو نفسكم هناك .. يلا حمد لله على السلامة اتفضلوا "
لم يجد الركاب ما يقولوه .. واضطروا للهبوط من الميكروباص وتحلوا بالأمل في أن السائق قد قام فعلاً بتوصيلهم .
ظلوا يسيرون لأكثر من ساعة بلا أمل .. إنها النهاية على ما يبدو ..
ذلك السائق ألقاهم في الطريق ..
بلا ماء . بلا نقود .. وبلا أمل .
ومن العدم وبعد فقدان الأمل .. وجدوا ميكروباص يقترب منهم ليقف أمامهم ويقول لهم سائقه :
" سلامو عليكم .. أنا الأسطا (جمال) .. مالكم إيه اللي نزّلكم هنا ؟ "
رد أحد الأشخاص :
" سواق منه لله رمانا وقال لنا إننا وصلنا الموقف وإحنا من ساعتها ماشيين مش لاقيين حد نركب معاه .. "
ابتسم لهم السائق وقال :
" ولا يهمّكم .. عربيتي تحت أمركم "
وصعد الركاب إلى الميكروباص وهم يشكرون السائق على انتشالهم من التيه الذي عانوه ووعدوه بأنهم بمجرد ما إن يصلوا سيمنحونه ما يريده .
وبعد لحظات من التحرك أمسك السائق الهاتف وأتصل برقم ما وقال همساً :
" ألوو .. أيوا يا أسطا (عبدو) .. كله تمام الله ينوّر .. أه الركاب فاكرين إني عديت عليهم بالصدفة وأنقذتهم .. ما تقلقش .. نصيبك محفوظ زيّ ما اتفاقنا ونصيب النفرين اللي جنبك برضو .. يلا سلام يا أسطا " .
محمد العليمي
25 فبراير 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق